الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال كعب الأحبار: مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارًا فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جنايتي أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم.وقال ابن عباس: هربوا ليلًا من دقيانوس وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن اسحق فلبثوا فيه ليس لهم عمل غير الصلاة والصيام والتسبيح والتمجيد ابتغاء وجه الله تعالى وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًا وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابًا كانت عليه حسانًا ويأخذ ثيابًا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم ياخذ وَرِقه وينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعامًا وشرابًا ويتجسس لهم الخبر هل ذكروا أصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا في ذلك ما شاء الله أن يلبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل أخبرهم أنّ الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا من عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودًا يدعون ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا ذلك مع غروب الشمس ثم جعلوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضًا فينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظمائه وعظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا أن بي غضبًا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي.فقال عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قومًا فجرة مردة عصاة، فقد كنت أجلت لهم أجلًا ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضبًا شديدًا ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم واراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم {أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور} الحج، قوله بنجلوس هكذا في النسخ والذي في حياة الحيوان منحلوس اهـ.فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعًا وعطشًا ويكون كهفهم الذي اختاروه قبرًا لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قومًا مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة. وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف {فقالوا}، أي: عقب استقرارهم فيه {ربنا آتنا من لدنك}، أي: من عندك {رحمة} توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك {وهيئ لنا من أمرنا}، أي: من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رشدًا} الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان:الأوّل: أنّ التقدير هيئ لنا أمرًا ذا رشد، أي: حتى نصير بسبببه راشدين مهتدين. الثاني: اجعل أمرنا رشدًا كله كقولك رأيت منك رشدًا. ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى: {فضربنا}، أي: عقب هذا القول وبسببه {على آذانهم} حجابًا يمنع السماع، أي: أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم {في الكهف}، أي: المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى: {سنين} ظرف زمان وقوله تعالى: {عددًا}، أي: ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35]. وقال الزجاج: إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ {ثم بعثناهم}، أي: أيقظناهم من ذلك النوم {لنعلم}، أي: علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيرًا منها ما سبق في سورة البقرة {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة]. وفي آل عمران: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} [آل عمران]. وقد نبهنا على ذلك في محله {أيّ الحزبين}، أي: الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم {أحصى لما لبثوا أمدًا} واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكًا بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد: الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} [الكهف].فالحزبان هما هذان وكان الذين {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء: إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم. تنبيه: أحصى فعل ماض، أي: أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في الكشاف: ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به. ثم قال الله تعالى: {نحن}، أي: بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة {نقص عليك} يا أشرف الخلق {نبأهم}، أي: خبرهم العظيم قصًا ملتبسًا {بالحق}، أي: الصدق {إنهم فتية}، أي: شبان {آمنوا بربهم}، أي: المحسن إليهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم، ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {وزنادهم} بعد أن آمنوا {هدى} بما قذفناه في قلوبهم من المعارف {وربطنا على قلوبهم}، أي: قويناها فصار ما فيها من القوى مجتمعًا غير مبدد فكانت حالهم في الجلوة حالهم في الخلوة. {إذ قاموا}، أي: وقت قيامهم بين يدي الجبار دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام {فقالوا ربنا رب السموات والأرض} وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله تعالى وصرحوا بالبراءة من الشرك والأنداد بقولهم: {لن ندعو من دونه إلهًا} لأنّ ما سواه عاجز والله {لقد قلنا إذًا}، أي: إذا دعونا من دونه غيره {شططًا}، أي: قولًا ذا بعد عن الحق جدًا. وقال مجاهد: كانوا أبناء عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئًا ما أظن أنّ أحدًا يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أنّ ربي رب السموات والأرض. قالوا: نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعًا فقالوا: {ربنا رب السموات والأرض}. وقال عطاء: قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. قال الرازي: وهو بعيد لأنّ الله تعالى استأنف قصتهم بقوله تعالى: {نحن نقص عليك}. وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانًا مطوّقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله تعالى في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه فقالوا في أنفسهم: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسًا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج آخر فخرجوا كلهم جميعًا فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه مخافة على نفسه ثم قالوا: ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفشي كل واحد سرّه إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعًا على الإيمان، وإذا بكهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض: {هؤلاء قومنا} وإن كانوا أسنّ منا وأقوى وأجل في الدنيا {اتخذوا من دونه آلهة} أشركوهم معه تعالى لشبهة واهية {لولا}، أي: هلا {يأتون عليهم بسلطان}، أي: دليل {بين}، أي: ظاهر مثل ما نأتي نحن على تقرير معبودنا بالأدلة الظاهرة فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين فلذلك قالوا: {فمن أظلم}، أي: لا أحد أظلم {ممن افترى}، أي: تعمد {على الله}، أي: الملك الأعظم {كذبًا} بنسبة الشريك إليه تعالى. ثم قال بعض الفتية لبعض: {وإذ}، أي: وحين {اعتزلتموهم}، أي: قومكم {وما يعبدون}، أي: واعتزلتم معبودهم وقولهم: {إلا الله} يجوز أن يكون استثناء منه متصلًا على ما روي أنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه كما كان أهل مكة، وأن يكون منقطعًا وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية بأنهم لم يعبدوا غير الله تعالى: {فأووا إلى الكهف}، أي: الغار الذي في الجبل {ينشر}، أي: يبسط {لكم} ويوسع عليكم {ربكم}، أي: المحسن إليكم {من رحمته} ما يكفيكم به المهم من أمركم في الدارين {ويهيئ لكم من أمركم}، أي: الذي من شأنه أن يهمكم {مرفقًا}، أي: ما ترتفقون به وتنتفعون وجزمهم بذلك لخلوص نيتهم وقوّة وثوقهم بفضل الله. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. قال الفراء: وهما لغتان واشتقاقهما من الارتفاق، وكان الكسائي لا يذكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أنّ الفتح أقيس والكسر أكثر والخطاب في قوله تعالى: {وترى الشمس} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة {إذا طلعت تزاور}، أي: تميل {عن كهفهم ذات اليمين}، أي: نا حيته {وإذا غربت تقرضهم}، أي: تعدل في سيرها عنهم {ذات الشمال}، أي: فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأنّ الله تعالى زواها عنهم. وقيل إنّ باب ذلك الكهف كان مفتوحًا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله. وقرأ السوسي بإمالة ألف ترى المنقلبة بعد الراء في الأصل بخلاف عنه، والباقون بالفتح في الوصل وهم على أصولهم في الوقف وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وتزاور بتشديد الزاي وتخفيف الراء مضمومة، وابن عامر بسكون الزاي ولا ألف بعدها وتشديد الواو على وزن تحمرّ، والباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الزاي والواو ولا خلاف في ضم الراء.ولما بين أنه تعالى حفظهم من حرّ الشمس بيّن أنه أنعشهم بروح الهواء وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال تعالى: {وهم في فجوة منه}، أي: في وسط الكهف ومتسعه ينالهم برد الريح ونسيمها، ثم بيّن تعالى نتيجة هذا الأمر الغريب في النبأ العجيب بقوله تعالى: {ذلك}، أي: المذكور العظيم {من آيات الله}، أي: دلائل قدرته {من يهد الله}، أي: الذي له الملك كله يخلق هذه الهداية في قلبه كأصحاب الكهف {فهو المهتد} في، أي: زمان كان فلن تجد له مضلًا مغويا ففي ذلك إشارة إلى أنّ أهل الكهف جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فلطف بهم وأعانهم وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأنّ كل من سلك طريق المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة، وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد الدال في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وقفًا ووصلًا. {ومن يضلل}، أي: يضله الله تعالى ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه {فلن تجد له وليًا}، أي: معينًا {مرشدًا}، أي: يرشده للحق، ثم إنه تعالى عطف على ما مضى بقية أمرهم بقوله تعالى: {وتحسبهم}، أي: لو رأيتهم أيها المخاطب {أيقاظًا}، أي: منتبهين لأنّ أعينهم مفتحة للهواء لأنه يكون أبقى لها، جمع يقظ بكسر القاف {وهم رقود}، أي: نيام جمع راقد قال الزجاج: لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى: {ونقلبهم}، أي: في ذلك حال نومهم تقلبًا كثيرًا بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات}، أي: في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث.تنبيه:اختلف في مقدار مدّة التقليب، فعن أبي هريرة أنّ لهم في كل عام تقليبتين.وعن مجاهد يمكثون رقودًا على أيمانهم تسع سنين ثم ينقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودًا تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة يوم عاشوراء. قال الرازي: وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف انتهى. ولهذا قلت بحسب ما ينفعهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فائدة تقلبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا ثيابهم اهـ.
|